لا يُقاس العظماء بالسنوات، بل بالأثر. وبعانخي لم يكن مجرد ملك...
بل كان رمزًا للكرامة، وقائدًا لحضارةٍ عظيمة لم تُكتب لها أن تُنسى.”
إذا كنت تعتقد أن تاريخ مصر القديمة يبدأ وينتهي بفراعنة الشمال، فأنت على وشك اكتشاف
حقيقة مختلفة تمامًا.
ففي قلب صحراء النوبة، حيث يتدفق النيل بين الصخور والرمال، وُلد ملك غير وجه التاريخ:
بعانخي — أول ملك أسود يحكم مصر، وأعظم ملوك كوش، وأحد أبرز الحكام في التاريخ الإنساني.
من هو بعانخي؟
بعانخي (يُعرف أيضًا باسم بيي أو باينخي) كان ملكًا لمملكة كوش،
التي تقع أراضيها اليوم في شمال السودان. وُلد حوالي عام 790 ق.م في مدينة ناباتا
(قرب كرمة الحديثة)، وكان الابن الأكبر للملك كاشتا، الذي بدأ سياسة التوسع شمالًا
نحو مصر. في عام 747 ق.م، تولى بعانخي الحكم بعد وفاة والده. لم يكن مجرد وريث، بل
كان قائدًا عسكريًا محنكًا، وحاكمًا دينيًا ذا رؤية، ومفكرًا سياسيًا فذًا.
لماذا حكم بعانخي مصر؟
لم يكن هدف بعانخي مجرد الغزو والسيطرة، بل إصلاح ما فسد في مصر.
فقد كانت البلاد آنذاك تعاني من انقسامات داخلية، وضعف إداري، وانحطاط ديني، خاصة في
معبد آمون بطيبة الذي كان مركزًا روحيًا وثقافيًا هامًا. في عام 730 ق.م، قاد بعانخي
حملته العسكرية الكبرى، متحركًا شمالًا عبر النيل، فاحتل طيبة، ثم ممفيس، وهزم ملوك
الشمال واحدًا تلو الآخر. وفي عام 727 ق.م، تُوّج ملكًا على مصر في معبد آمون بطيبة،
ليصبح بذلك أول ملك من كوش يحكم مصر رسميًا.
كيف حكم بعانخي؟
لم يتعامل بعانخي مع مصر كمستعمرة تابعة، بل كجزء من وحدة حضارية
وثقافية. أعاد تنظيم الإدارة، ورمم المعابد، وعيّن حكامًا موالين له من عائلته. كما
حافظ على التقاليد المصرية القديمة، لكنه أضفى عليها الطابع النوبي في الأزياء والتيجان
والطقوس الدينية. لقّب نفسه بـ 'الملك الذي أعاد النظام'، وهو لقب استحقه بجدارة.
وفاته ومكان دفنه
توفي بعانخي عام 716 ق.م بعد حكمٍ دام أكثر من ثلاثين عامًا، ودُفن
في مدينة ناباتا داخل الهرم رقم 17 في مقابر ميروي — أحد أشهر أهرامات السودان حتى
اليوم. لم يُعثر على جسده، لكن النقوش والتماثيل داخل الهرم تؤكد هويته. وقد اكتُشف
قبره عام 1862 على يد المستكشف الإيطالي جوفاني بيلزوني.
لماذا يجب أن نعرف بعانخي؟
بعانخي ليس مجرد اسم في سجل الملوك، بل رمزٌ للقوة والكرامة والاستقلال.
لقد أثبت أن الحضارة النوبية ليست ظلًا لمصر، بل كيانًا مستقلًا قادرًا على إدارة إمبراطورية،
وبناء نظام سياسي وثقافي متكامل. كما أنه أول ملك إفريقي أسود يحكم مصر — حقيقةٌ تاريخية
قلّما تُذكر في المناهج الدراسية، رغم توثيقها في النقوش والآثار الأصلية.
تماثيل ونقوش بعانخي
توجد العديد من الآثار التي خلدت بعانخي، منها:
• لوحة النصر (نقوش بعانخي) – لوحة حجرية ضخمة في معبد آمون بطيبة تصف حملته العسكرية
بالتفصيل.
• تمثال بعانخي في المتحف المصري بالقاهرة – يظهر فيه وهو يقدم القرابين للآلهة.
• تمثال في متحف المتروبوليتان – نيويورك – يصوره مرتديًا التاج المزدوج لمصر العليا
والسفلى.
إرث بعانخي الخالد
يُعد بعانخي أحد أعظم ملوك إفريقيا عبر العصور، لأنه:
• أول ملك من كوش يحكم مصر رسميًا.
• أعاد توحيد مصر بعد أكثر من 150 عامًا من الانقسام.
• عزز استقلال الحضارة النوبية وقوتها.
• ترك نظامًا إداريًا وثقافيًا امتد تأثيره لأكثر من قرن.
“الحضارة لا تُقاس بالحجار، بل بالعقل الذي يبنيها، وبالقلب الذي يحميها.” — بعانخي
(بمعنى رمزي)
المصادر والمراجع
·        
Kitchen, K.A. (1996). The
Third Intermediate Period in Egypt (1100–650 BC). Aris & Phillips.
·        
Yellin, J. (2004). The
Napatan Kings and the Egyptian Model. Journal of Egyptian Archaeology, 90, pp.
147–164.
·        
Shinnie, P.L. (1967).
Meroe: A Civilization of the Sudan. Thames & Hudson.
·        
Grimal, N. (1992). A
History of Ancient Egypt. Blackwell Publishing.
·        
Budge, E.A.W. (1902). The
Mummy: A Handbook of Egyptian Funerary Archaeology. Dover Publications.
·        
Török, L. (1997). The
Kingdom of Kush: Handbook of the Napatan-Meroitic Civilization. Brill.
·        
Reisner, G.A. (1923). The
Archaeological Survey of Nubia. Cairo Museum Reports.
·        
Kendall, T. (2008). The
Nubian Pharaohs. National Geographic Society.
·        
The British Museum. Stela
of Piye. Accession No. EA23.
·        
Metropolitan Museum of Art.
Statue of Piye. Accession No. 12.182.1.
